محطات في التاريخ الفنلندي

فجر التاريخ في فنلندا:
يعتقد العلماء ان وصول الإنسان إلى فنلندا حدث تقريبا قبل عشرة الاف سنة، ولكن أول من أشار إلى وجود شعب بفنلندا هو المؤرخ الروماني تاسيتوس في كتابه جرمانيا، وقصد سكان اللابلاند الحاليين "الساميين"، وهم سكان فنلندا الاصليين. وبدأت الهجرة إلى فنلندا خلال القرن الاول بعد الميلاد من خلال مجموعات صغيرة قادمة من الجنوب. ومع بداية الالف الاولى بعد الميلاد كانت قد بدأ في فنلندا استطان دائم.

فنلندا جزء من السويد:
بدأ الفنلنديون يؤمنون بالديانة المسيحية بعد ميلاد المسيح باحدى عشر قرنا. في عام
1155 قام ملك السويد إيريك (IX) القديس بتوجيه اول حملة صليبية إلى فنلندا، وكانت تحت اشراف الاسقف هنريك، الانجليزي المولد والذي اغتيل في عام 1156. وأخذت السويد بعد ذلك في تثبيت اقدامها في فنلندا، إلى ان تم الحاق فنلندا بالسويد بمباركة البابا في عام 1216. واستمرت الحملات الصليبية السويدية على مختلف اراضي فنلندا، فكانت الثانية في عام 1249 إلى منطقة هامي، والحملة الثالثة في 1293 إلى منطقة كاريلا. وثبتت هذه الحملات السيطرة السويدية. في عام 1323 تم عقد اتفاقية سلام  "Pähkinäsaari" (جزيرة اللوز) وبموجبها تم تحديد الحدود الشرقية للبلد، والتي تعتبر ايضا حدودا دينية و حضارية. منذ عام 1326 اصبح هناك ممثلين لفنلندا في البلاط السويدي، ولم تعد فنلندا مجرد مستعمرة سويدية، بل جزء من الدولة السويدية.
 في القرن الثالث عشر تم تأسيس أول مدينة فنلندية، وهي توركو التي تعتبر عاصمة فنلندا القديمة. اما هلسنكي فقد تم تأسيسها في عام
1550 بناء على اوامر الملك كوستا فاسا. في القرن السادس عشر بدأت حركة تطهير ديني، وسيطرت اللوثرية على فنلندا.

الانبعاث القومي:
 
بدأ بروز تيار وطني فنلندي في القرن السادس عشر، وظهرت للوجود أول كتب باللغة الفنلندية، حيث نشر أبو اللغة الفنلندية ميكائيل اجريكولا أول أعماله في عام 1543 وكان كتيب تعليم الابجدية الفنلندية . وتابع اجريكولا اصداراته التي كانت دينية، وتوجها بترجمة العهد الجديد من الكتاب المقدس 1548. ومر نحو قرن من الزمان لكي تتم ترجمة كل الكتاب المقدس للغة الفنلندية، حيث صدر في عام 1642، وكان تطور اللغة الفنلندية أسيرا للكتاب المقدس، ولم تتخلص من تحكمه فيها إلا في القرن الثامن عشر، الذي صدرت فيه أعمال متعددة باللغة الفنلندية منها أعمال في شرحها، واخرى بها قصص وأحاجي، وقواميس، وترجمة للقانون السويدي. وصدرت أول صحيفة باللغة الفنلندية (تيتو سانومات) في عام 1776.
تأتي فنلندا في مقدمة الدول المصنعة للمنتوجات الورقية وآلاتها، ولها تاريخ عريق في ذلك، فأول مصنع للورق في فنلندا بدأ عمله في عام
1667.
شهدت فنلندا في عام
1696 و 1697 مجاعة راح ضحيتها ثلث سكانها. وكان عهد الملك السويدي كارل X11  عهد حروب، وفرض على الفنلنديين القتال بعيدا عن وطنهم.

في عام 1713 بدأ اقتتال ما بين السويديين والروس، وعانت المناطق الفنلندية من ويلاته. وبدأت مرحلة أطلق عليها اسم "isoviha"، وامتدت هذه المرحلة حتى عام 1721 عندما عقدت اتفاقية سلام، تعرف باسم اتفاقسى المدينة الجديدة " Uudenkaupungin rauha "، اعطي بموجبها للروس أجزء من فنلندا.
مابين عامي
1741 و 1743 كان احتلال روسي جديد لفنلندا، ويطلق عليه اسم "pikkuviha".
حصلت بعض المدن الساحلية الفنلندية على حق التجارة الخارجية في عام
1765. وقبل ذلك كانت تجارة المدن يجب ان تمر عبر ستكهولم.

نشبت في عام 1808 الحرب المعروفة باسم حرب فنلندا ما بين السويد وروسيا، والتي هزمت فيها السويد. وبموجب اتفاقية مابين الطرفين المتحاربين سلم السويديون فنلندا لروسيا، وتعرف هذه الاتفاقية باسم "Haminan rauha".

فنلندا تحت روسيا.. الحكم الذاتي:
وكانت فنلندا عشية تسليمها لروسيا متطورة نسبيا. بالاضافة لما ذكرناه عن الانتاج الادبي والاعلامي ومصنع الورق، فان بعض بنية المجتمع الفنلندي تأسست اثناء السيطرة السويدية. وكان على سبيل المثال لفنلندا بنيتها التشريعية.

واعطى القيصر الروسي لفنلندا حكما ذاتيا، واصبحت دوقية تابعة لروسيا، ذات وضع خاص. ويوصف عهد القيصر الاكسندر الاول ما بين الاعوام 1809 و 1825 بعهد الحرية والتقدمية، وكان فيه لفنلندا قوانينها الخاصة، وتم صرف الضرائب لمصلحة الفنلنديين، وتم انشاء البريد الفنلندي وهئية الجمارك. وفي هذا  العهد (1812) اصبحت هلسنكي عاصمة للدوقية.

في عام 1840 تم ابعاد العملة السويدية من فنلندا، واصبح الروبل الفضي الروسي العملة الوحيدة المتداولة في السوق.

في عام 1850 صدرت الأوامر بمنع نشر مواد باللغة الفنلندية، باستثناء المواد الدينية و الاقتصادية. وفي نفس العام تم استحداث منصب بروفسور للغة الفنلندية بجامعة هلسنكي.

في عام 1854 – 1855 قصف اسطول بريطاني فرنسي الساحل الفنلندي في موقعة اولند "Åland"، وذلك اثناء حرب القرم، التي كانت ما بين روسيا من جهة وتركيا وبريطانيا وفرنسا وبيامونتة من جهة اخرى، وانتهت بهزيمة روسيا وتوقيع معاهدة سلام باريس عام 1856، والتي من ضمن شروطها منع روسيا من بناء قلاع في جزر ارخبيل اولاند "Åland". او اهفانين ما كما تدعى في اللغة الفنلندية "Ahvenanmaa".خلف الاكسندر الثاني دوق جديد هو نيكولاي الأول، الذي تميز عهده بالتحجر والبيروقراطية. وبانتهائه في عام 1855 جاء عهد الاكسندر الثاني، الذي عادت فيه الحريات، واصبح بالامكان استعمال اللغة الفنلندية في الادارات العامة.
في عام
1862 تم انشاء اول خط للسكة الحديدية في فنلندا، واول مصرف تجاري.

وفي عام 1863 بدأ برلمان هلسنكي فترة ادارته الدستورية. وفي نفس العام اصبح وضع اللغة الفنلندية متساو مع اللغة السويدية كلغتي ادارة.

في عام 1864 اصبحت النساء الفنلنديات كاملات الاهلية القانونية. وفي العام التالي 1865 أصبح لفنلندا عملتها الخاصة بها.

وفي عام 1879 بدأ الفنلنديون يتمتعون بحرية كاملة في التجارة وغيرها من مصادر الدخل.

وشهد عقد الثمانينيات من القرن التاسع عشر انطلاقة للحركات الشعبية الفنلندية، ومنها الجمعيات الشبابية والحركات العمالية والنسائية.

ومع نهاية عهد الاكسندر الثاني في عام 1881 وتولي الاكسندر الثالث بدأ التشديد على الفنلنديين، وتقييد الحكم الذاتي بالسياسة الموحدة المتبعة.

وبتولي الدوق نيكولاي الثاني خلفا لابيه الاكسندر الثالث في عام 1894 بدأ التضييق والاضطهاد، وجاء عصر أصبح فيه القمع يشتد. ويطلق الفنلنديون على هذه الفترة اسم عهد الظلم "sortokaudet".

وحفظ التاريخ اسم حاكم لفنلندا ضيق على شعبها كثيرا، وهو نيكولاي بوبريكوف، الذي كانت سياسته تهدف إلى تذويب فنلندا في روسيا بالكامل، وذلك طوال فترة توليه المهمة التي بدأت في 1898.

ومن الاجراءات التي اتخذت خلال هذه الفترة: تعليمات بأن تكون الطوابع البريدية روسية، واصبحت اللغة الروسية هي اللغة العليا في الادارات، وزاد التضييق على المطبوعات، وتم الحد من التجمعات.

في 15 فبراير 1899 صدر اعلان في بطرس بورغ (لينين غراد)، يعرف لدى الفنلنديين باعلان فبراير، وبموجبه اعلن عن نية القيصر اعطاء توجيهاته لاقاليم حكمه في القوانين والتشريعات، ومنها فنلندا، ويتعارض هذا الاعلان مع دستور دوقية فنلندا.

وبلغت ذروة تشديد الخناق في عام 1903 عندما حصل بوبريكوف على صلاحيات دكتاتور. غير انه لم يستمر طويلا بصلاحياته هذه اذ تم اغتياله في 16 يونيو 1904 على يد (Eugen Schauman) الموظف في مديرية التعليم، والذي اطلق النار على نفسه بعد ان نفذ عملية الاغتيال.

شهدت روسيا في بداية القرن العشرين سلسلة من الاضرابات قام بها العمال والاحزاب المعارضة مطالبين بنظام برلماني اجتماعي. ووصل الامر إلى فنلندا حيث نفذ الفنلنديون اضرابا عاما في نهاية اكتوبر 1905 واستمر نحو اسبوع، طالبوا فيه انهاء سياسة روسيا الظالمة نحوهم، وارجاع الشرعية للبلاد. على اثر الاضراب العام وقع القيصر نيكولاي الثاني "اعلان نوفمبر"، الذي الغاء "اعلان فبراير" وعادت الامور إلى حالتها الشرعية.

في عام 1906 دخلت فنلندا التاريخ من اوسع ابوابه، ونالت شرف اعطاء المرأة الفنلندية حقها في الانتخاب، لتصبح المرأة الفنلندية اول امرأة في اوروبا تحصل على هذا الحق، الذي لا تزال نساء كثيرات محرومات منه في هذا العالم.

وفي عام 1907 تم اختيار اول برلمان، مكون من غرفة واحدة، في انتخابات عامة.

في عام 1908 بدأ التوتر يخيم على علاقة فنلندا بروسيا، وبدأ التضييق على الفنلنديين من جديد. ويطلق الفنلنديون على هذه الفترة اسم عهد الظلم الثاني " toinen sortokaudet". وفيها تم حل البرلمان. وشهدت هذه الفترة صراعا في المجتمع الفنلندي ما بين البرجوازيين والاشتراكيين.

ويرجع المؤرخون اسباب السياسة الروسية القاسية ضد فنلندا إلى تنامي الشعور القومي للروس وإلى اهداف روسيا الامنية في ذلك الوقت.

وصدر في عام 1910 قانون روسي، نقل بموجبه اصدار القوانين المهمة المتعلقة بفنلندا إلى الهئيات التشريعية الروسية. وفي عام 1912 اصبح المواطنون الروس يتمتعون بنفس حقوق الفنلنديين بفنلندا، بما فيها حق العضوية في مجلس الشيوخ الفنلندي.

تصاعدت حركة المعارضة الشعبية الفنلندية ضد الحكم الروسي. ووصل الامر إلى تدريب مجموعات قتالية فنلندية في المانيا على حرب العصابات. وفي عام 1915 عاد البرلمان الفنلندي للاجتماع.
في مارس
1917 شهدت روسيا حركة ثورية من مدينة بطرسبورغ (لينين غراد)  أدت إلى تنازل  نيكولاي الثاني عن الحكم، وقيام حكومة اشتركية. بعدها وبالتحديد في يوليو 1917 اخذ البرلمان الفنلندي زمام المبادرة وقبض على اغلب مقاليد السلطة العليا للبلاد، باستثناء السياسة الخارجية والامور العسكرية، ولكن حكومة روسيا المؤقتة لم تسمح له بذلك.

كانت الثورة الروسية في اكتوبر 1917، التي قام بها البولشفيك بقيادة لينين وأدت إلى حكم الحزب الشيوعي السوفيتي، نقطة تحول هامة بالنسبة للفنلنديين، إذ الغت كافة القوانين الظالمة، واعادة فنلندا إلى وضعها السابق متمتعة بالحكم الذاتي.

 

الاستقلال:
بعد ثورة أكتوبر الروسية  بفترة قصيرة اعلن البرلمان الفنلندي مصادقته على بيان الاستقلال، ويعتبر الفنلنديون يوم 6 ديسمبر1917 هو عيد استقلال بلادهم. واعترفت روسيا السوفيتية بالاستقلال الفنلندي في 31 ديسمبر

 [http://www.uta.fi/suomi80/art6.gif] . وفي بداية عام 1918 اعترفت فرنسا والسويد وألمانيا باستقلال فنلندا. وتأخر اعتراف دول العالم بالاستقلال الفنلندي يرجع إلى انتظارها إلى ما تسفر عنه الأحداث في روسيا، وتعاملت مع الأمر بحذر شديد.

بدأت فنلندا عهد الاستقلال بمواجهة عددا من المشاكل، فالبطالة كانت مرتفعة جدا في صفوف المواطنين، وحلت بالبلد أزمة في المواد التموينية، أدت إلى شبه مجاعة في بعض المناطق. وظهرت الانقسامات في المجتمع الفنلندي، وكانت أشد ما تكون في برلمان الاستقلال حيث الاختلاف ما بين البرجوازيين والاشتراكيين كان شديدا للغاية.

الحرب الأهلية:
وبدأ الطرفان في تأسيس ميليشيات خاصة بهما مما هيأ الأجواء إلى اندلاع حربا أهلية في نهاية يناير 1918 ،  تقاتلت فيها مليشيات الطرفين. البرجوازيين (مجموعات الحماية
"suojeluskuntia")، والذين عرفوا بالبيض من جهة  و اليسار ( الحرس الاحمر"punakaarteja")، الذين عرفوا بالحمر من جهة اخرى. ومما زاد في تأزم الموقف التدخلات الخارجية من الروس والالمان. حيث كان لروسيا نحو 70 ألف عسكري متواجدين في الاراضي الفنلندية. وقدمت ألمانيا دعما لفريق البيض، الذي رأى في الحرب الأهلية حرب ترسيخ استقلال فنلندا.

انتصر في نهاية المطاف فريق البيض، وتم التنكيل بالحمر، إذ لقى نحو 12 ألف منهم حتفهم في معسكرات الاعتقال بسبب الأمراض وسوء التغذية. وتركت هذه الحرب بصماتها على المجتمع الفنلندي.

انتهت الحرب في شهر مايو، بعد ان راح ضحيتها ما يقرب من 30 ألف قتيل. ولم يسمح للمهزومين بالمشاركة في البرلمان الفنلندي، الذي اختار للبلاد الحكم الملكي، وبهذا اصبحت فنلندا مملكة، وتم اختيار أمير مقاطعة هيسين Hessen الألمانية (Friedrich Karl) في اكتوبر 1918، ولكنه بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الاولى لم يوافق على المجيء إلى فنلندا.
اثر ذلك صادق البرلمان الفنلندي في شهر يوليو على تشكيل نظام جمهوري، لرئيسه سلطات واسعة. وكان أول رئيس لفنلندا
K. J. Ståhlberg، الذي بدأ في إزالة انقسامات المجتمع التي خلفتها الحرب، ومن الاجراءات التي اتخذها اصدار عفوا عاما.

في 4 أكتوبر 1920 تم توقيع اتفاقية سلام في مدينة تارتو الاستونية، ما بين فنلندا والاتحاد السوفيتي. وبموجب هذه الاتفاقية تم التأكيد على الحدود ما بين البلدين، إذ تم تعديلها وتبادل الطرفان مناطق فيما بينهما. اعطيت لفنلندا مناطق جديدة من بينها "Petsamo" في شمال شرق فنلندا.

بعد اتفاقية تارتو دخلت فنلندا في نزاع مع السويد حول جزر أرخبيل اولاند. وفي النهاية حسمت عصبة الامم، الأمر لصالح فنلندا.

زمن الحروب:

وفي عام 1932 عقدت فنلندا والاتحاد السوفيتي إتفاقية عدم اعتداء، واستمر العمل بها لسبعة سنوات.

حرب الشتاء "talvisota":
قام الاتحاد السوفيتي بنقضها في عام
1939 وهجم على فنلندا. وسبب ذلك إمتناع فنلندا عن الموافقة على عرض من الاتحاد السوفيتي لتبديل اراضي معها وتأجير منطقة له يستعملها كنقطة دفاعية متقدمة.
قاوم الفنلنديون الهجوم الروسي المفاجيء، واستبسلوا دفاعا عن أرضهم في حرب خاضوها في طقس قارس، إذ بدأت في
30 نوفمبر 1939 واستمرت حتى 13 مارس 1940. وتعرف عندهم بحرب الشتاء (talvisota).

وحقق الفنلنديون في هذه الحرب معجزة سطرها التاريخ، وأظهروا فيها بطولة نادرة. إذ كان الفارق كبيرا جدا ما بين قوات الطرفين وعدتهما وعتادهما. فالروس دخلوا الحرب بنصف مليون عسكري مدعومين بنحو ألفين دبابة و ألف طائرة وغيرها من الأسلحة الحديثة. والفنلنديون قاوموا بأقل من ثلاثمئة ألف مقاوم، وهم الرجال الفنلنديون الذين استدعوا إلى الدفاع، ولم تكن الأسلحة المتوفرة كافية للجميع. وكانت هذه الأسلحة بسيطة جدا لا تضاهي أسلحة العدو. وكان الهدف الذي وضعه الروس هو احتلال فنلندا في 3 أسابيع، غير أنها استمرت 105 يوما.
سقط في هذه الحرب من الفنلنديين
22800  قتيل و 43600 جريح. أما خسائر الجانب الروسي فكانت 90000 قتيل و 200000 جريح.
توقفت الحرب بموجب اتفاقية موسكو، التي بموجبها تنازلت فنلندا عن جزء من اراضيها للاتحاد السوفيتي من بينها جزء من منطقة كاريالا، وفرض على فنلندا تأجير مناطق للسوفييت لمدة
30 عاما. وكانت الاتفاقية مجحفة للفنلديين، ولكن نتج عنها اتفاق سلام مؤقت. جرت خلاله اتصالات ما بين فنلندا وألمانيا.

كان الفنلنديون يتابعون عن كثب ما يجري حولهم، وخاصة في الدول القريبة منهم. فدولة ليتوانيا كانت قد رضخت لشروط روسية، منها اتفاقية تقديم مساعدات في اكتوبر 1939، وبموجبها نقل الاتحاد السوفيتي معدات عسكرية إلى ليتوانيا، ولم تمضي فترة من الزمن حتى احتلها السوفييت. ونفس الأمر حدث مع دولة لاتفيا ودولة إستونيا ، إتفاقية..  فتواجد قوات..  فاحتلال.
وكان إسقاط السوفييت لطائرة مدنية فنلندية، كانت تسير في رحلة اعتيادية ما بين هلسنكي وتالين، اثر بالغ في تأجيج مشاعر الفنلنديين ضد الروس.

وكان هدف المسؤلين الفنلنديين من التقارب هو الحصول على أسلحة وعتاد يدافعون به عن انفسهم، وهدف الألمان هو الحصول على معبر لقواتهم المتواجدة في النرويج عبر الاراضي الفنلندية إلى روسيا.
ويرى باحثون ان حرب الشتاء أحدثت منعطفا في التاريخ، إذ عرف من خلالها الروس نقاط ضعف قواتهم ولهذا عملوا على إصلاحها وإعادة تجهيزها. وأغرت نتائج حرب الشتاء الألمان، الذين رأوا أنهم بالإمكان أن يهجموا على روسيا بعدما رأوا ما فعله الفنلنديون بجيشها، ولكنهم أساوا التقدير ولم يحسبوا الأمر كما ينبغي.

حرب المواصلة "Jatkosota":
في ربيع عام
1941 توترت الأوضاع في شمال وشرق أوروبا، الأمر الذي أثر أيضا على فنلندا. عندما هاجمت ألمانيا الاتحاد السوفيتي في 22 يونيو، اشتركت بعض القوات الألمانية المتواجدة في فنلندا في الهجوم. وكانت ردة الفعل الروسية هي قيام الطيارون السوفييت بقصف المراكز السكنية الفنلندية في 25 يونيو، وأعلن الرئيس الفنلندي ريستو ريتي "Risto Ryti" بعد ذلك بيوم  دخول فنلندا الحرب. وكان عدد القوات الفنلندية نحو 475 ألف رجل.
كان هدف الفنلنديين من دخول الحرب هو استرجاع الأراضي التي فقدوها في حرب الشتاء، ولا سيما منطقة كاريلا. ولم يكن الفنلنديون يريدون الظهور بمظهر المهاجم أو المتحالف مع ألمانيا، ولهذا رفضت قيادتهم السياسية المشاركة في الأعمال العسكرية الألمانية التي استهدفت لينين غراد. وتقدمت القوات الفنلندية بسرعة إلى أهدافها ووصلت إلى أبعد من حدود البلاد القديمة.

أثناء سير المعارك شعر الفنلنديون بأنها أصبحت لا تسير لصالح الالمان، ولهذا بدأوا مساعي لإيجاد مخرج للازمة وإن كان ذلك بحذر شديد.
ورغم أن بريطانيا أعلنت الحرب على فنلندا، بصفتها تقف مع الحلفاء، إلا أنه بفضل مساعي الفنلنديين فإن امريكيا لم تعلن حالة الحرب.

 تخللت الحرب مفاوضات ما بين الطرفين، وكانت شروط وقف إطلاق النار، التي عرضها الروس في ربيع 1944 قاسية لا تطاق، ولهذا رفضتها القيادة الفنلندية. بعدها شرعت القوات السوفيتية في هجوم كبير على فنلندا، تقدمت خلاله القوات السوفيتية بقوة، لتستولى على مناطق كانت تحت سيطرة الفنلنديين، من بينها مدينة فيبوري "Viipuri". ومما زاد الطين بلة هو الطلب السوفييتي من الفنلنديين الاستسلام بدون قيد أو شرط.
واثناء هذا الهجوم السوفييتي الكاسح قام الرئيس الفنلندي (الخامس) ريستو ريتي  بطلب العون من الألمان، و وافقت ألمانيا على الطلب الفنلندي بشرط أن توقف فنلندا كافة اتصالاتها مع الحلفاء. وهكذا تعهد الرئيس ريتي شخصيا بأن أمر مواصلة فنلندا للحرب أو اقامة سلام مع السوفييت لن يكون إلا بموافقة ألمانيا. وحصلت فنلندا على المساعدة الألمانية، التي كان لها دور في إيقاف الهجوم السوفييتي، بعد أن قرر قادته عدم الزج بجنودهم في معركة "جانبية" مع الفنلنديين، وإنما تحويلهم إلى صد الهجوم الألماني.
وفي هذا الوقت تراجع السوفييت عن مطلب الاستسلام بدون قيد او شرط، وأعلنوا عن استعدادهم لإجراء محادثات مع الحكومة الفنلندية.
وهكذا وجد الفنلنديون أنفسهم ما بين قوتين عظمتين، السوفييت والألمان. وأمام خيارين الحرب أو السلام. وتأزم الموقف في فنلندا، وأدى إلى استقالة الرئيس ريتي في أغسطس. واختار البرلمان الفنلندي الجنرال مانيرهيم
"Mannerheim" خلفا للرئيس المستقيل. واعلنت القيادة الفنلندية عن أنها في حل من تعهدات الرئيس ريتي مع الألمان، وفنلندا غير ملزمة باتفاقياته معهم. وكانت المهمة الاولى المطلوبة من الجنرال مانيرهيم الرئيس الجديد، وهوالرئيس الفنلندي السادس، هي إعادة السلام إلى البلاد.

ودارت مفاوضات ما بين الطرفين، كانت نتيجتها توقف الأعمال الحربية ما بين الجانبين في 4 سبتمبر/ايلول، وبدأت محادثات الهدنة ما بينهما، ونتج عن ذلك اتفاق ما بين الطرفين دخل حيز التنفيذ في 19 سبتمبر 1944، وكان يحمل شروطا مجحفة ضد فنلندا، إذا أجبر الفنلنديين على التنازل عن أراض للاتحاد السوفييتي من بينها كاريلا وبيتسامو"Petsamo, Karjala" ، والعودة إلى حدود البلدين التي كانت عليه وقت حرب الشتاء، وتأجير مناطق لمدة 50 عام، شبه جزيرة بوركالا "Porkkalan niemi"، ودفع تعويضات عن الحرب بما يقدر بـ300 مليون دولار بضائع في غضون 6 سنوات. والسماح بتواجد لجنة مراقبة من الحلفاء  تشرف على تنفيذ شروط الهدنة.
وكان من بين الشروط طرد الألمان من فنلندا خلال فترة محددة، ولصعوبة تحقيق عملية الطرد في الموعد المنصوص عليه دخل الفنلنديون حرب جديد، تعرف بحرب اللابلاند
"Lapin sota"، لطرد رفاق الامس.

حرب اللابلاند "Lapin sota":
تنفيذا لاتفاقية الهدنة مع الروس بدأت عملية طرد القوات الألمانية من فنلندا. وحددت الاتفاقية آخر موعد لعملية إجلاء القوات الألمانية، المقدر عددها بنحو
200 ألف عسكري، بمنتصف سبتمبر 1944 من جميع الأراضي الفنلندية. وانسحب الألمان من مناطق جنوب ووسط فنلندا، إلا انهم لم يتمكنوا لضيق الوقت من الخروج نهائيا منها، وبقيت قواتهم في منطقة اللابلاند. وبدأ الفنلنديون في خوض حرب جديدة ضد حلفاء الأمس، تعرف بحرب اللابلاند "Lapin sota"، امتدت من 15 سبتمبر 1944  وحتى 25 ابريل 1945، وهو تاريخ خروج آخر عسكري ألماني عبر منطقة كيلبسيارفي "Kilpisjärvi" نحو النرويج.
وكان الجيش الألماني قد قام اثناء إنسحابه بحرق المنطقة بأكملها، مما نتج عنه خسائر هائلة للفنلنديين، إضافة إلى الخسائر في صفوف القوات المحاربة، والتي بلغت في الجانب الفنلندي
774 قتيلا، 262 مفقودا، 2904 جريحا. أما خسائر الألمان فقد كانت نحو 4500 رجلا، منهم نحو ألف قتيلا.

الجمهورية الثانية "Toinen tasavalta":
بانتهاء طرد الألمان تنفس الفنلنديون الصعداء، والتفتوا إلى وضعهم الجديد. البلد منهك من الحروب، وعليهم دفع تعويضات كبيرة للطرف المنتصر، وتدبير أمر نحو
450 ألف فنلندي من منطقة كاريلا فقدوا بيوتهم وأملاكهم، وتم إجلائهم إلى فنلندا. بالإضافة إلى انقسامات حادة في المجتمع.

في عام 1946 استقال الرئيس مانيرهيم قبل نهاية فترته الرئاسية، وتولى السياسي المخضرم يوهو كوستي باسيكيفي " Juho Kusti Paasikivi" مهمة تكملت فترة الرئيس المستقيل، وكان وقتها يشغل منصب رئيس وزراء فنلندا، ويعتبر صاحب مدرسة في السياسة الفنلندية. وأصبح باسيكيفي الرئيس السابع لفنلندا.
وقع الطرفان الفنلندي والروسي على معاهدة سلام في
1947، تعرف باسم معاهدة باريس. وكانت امتدادا لاتفاقية الهدنة الموقعة بينهما في سبتمبر. وتحمل معاهدة باريس نفس الشروط القاسية، التي على فنلندا تطبيق ما لم يتم تطبيقه منها.

وبدأت القيادة السياسية الفنلندية في رسم سياسة جديدة للبلد لتجاوز الازمة، وفرضت الظروف على فنلندا انتهاج سياسة حكيمة خارجيا و داخليا ، ولم يكن هناك مجال إلى غير ذلك.
خارجيا بدأ المسؤولون في انتهاج سياسة تهدف إلى الحصول على ثقة الجار السوفييتي، وفي نفس الوقت كانوا حذرين من الانجرار إلى دائرة تأثيره المباشر.

في ابريل 1948 وقعت فنلندا مع السوفييت على معاهدة صداقة وتعاون وتقديم العون، تعرف اختصارا بـ " YYA". في الفقرات الخاصة بالشؤون العسكرية من المعاهدة، كانت توجد نصوص تلزم فنلندا بصد اي هجوم في المستقبل  يمر عبر اراضيها من الالمان او المتحالفين معهم ضد روسيا. ورغم ان المعاهدة التي املاءها السوفييت على الفنلنديين كانت تتشابه في مسوداتها الاولية مع تلك المعاهدات التي عقدها السوفييت مع حلفائهم الدائرين في فلكهم، الا ان الساسة الفنلنديين نجحوا في التفاوض حول محتويتها. وكان لفنلندا سياسة ثابتة مع السوفييت، وعلاقات عسكرية خاصة، ولكن لم تصبح جزء من المنظومة التابعة للاتحاد السوفييتي.

والمحصلة ان فنلندا انتهجت خطا سياسيا يطلق عليه "خط باسيكيفي"، وهو لضمان الاستقلال يجب الموازنة في العلاقات الخارجية، فمع الحصول على ثقة الجار السوفييتي الكبير تطوير علاقات جيدة مع العالم الغربي.
وفي السياسة الداخلية تم ابطال بعض القوانين التي كان لها علاقة بالحرب الاهلية والحروب التي تلتها. واعطي للحزب الشيوعي وضعا قانونيا. وفي المقابل تم منع حزب الحركة الشعبية الوطنية
" IKL"، وهو حزب يميني متطرف، كما منعت الجمعيات والتنظيمات الدائرة في فلكه، وذلك لان السوفييت المنتصرين في الحرب يعتبرونهم حركات فاشستية.

واقتصاديا تعافت فنلندا بسرعة من تأثيرات الحروب. وفرض امر تعويضات الحرب للسوفييت المفروضة عليها نفسه لتتوجه فنلندا إلى انشاء قاعدة صناعية عريضة، وهو ما نوّع الانتاج الصناعي الفنلندي. ورغم الاتجاه إلى التصنيع، الا ان الامرلم يقض على قطاع الزراعة، الذي تولاه النازحون من كاريالا، بل شهدت الزراعة نهضة بعد ان زاد عدد الفلاحين.

ويطلق بعض المؤرخين على هذه الفترة لما شهدته من تحولات مصطلح الجمهورية الثانية "Toinen tasavalta"، حتى وان كانت امتدادا لجمهورية فنلندا بعد الاستقلال من حيث قوالب الدولة وبنيتها الاساسية. ويسمي هؤلاء المؤرخون عهد الجمهورية الاولى بجمهورية البيض، الذين اتينا على ذكرهم في الحرب الاهلية ضد الحمر.

قريبا الجزء الثاني